(١)
هذه مقالة منعزلة عن كل ما يحدث، ولكنها عن كل ما حدث، وكل ما يحدث، وكل ما سيحدث.
***
(٢)
مقدمة كان لابد من إختصارها بعض الشيء:
في بداية حياتك تلعب في بيتك وحيدا، فترسم عشوائيا وبكل حماسة بالقلم الرصاص الأسود على الصفحات الخاوية البيضاء، فلا يهمك كثيرا ما ترسم بقدر إنبهارك بالرسم كفعل في حد ذاته، وبقدر إنبهارك بقدرتك على ترك أثرا أو صنع شيئا من لا شيء. ثم تذهب إلى الحضانة فيعطونك كتيبات الرسم التي تقوم فيها بتتبع صورا مرسومة مسبقا بنفس القلم الرصاص البسيط، فتكتشف بعض مما يمكنه أن يصنع. ثم تأخذ كتب التلوين فترى الرسومات ذات الفراغات، كلها خطوطا سوداء دقيقة مرسومة على صفحات بيضاء. ثم يعطونك علبة أقلام من ثمانية ألوان دارجة، فتقوم بالتلوين بها في تلك الكتب لفترة حتى تحفظ مع الوقت مواقع الأقلام في العلبة دون الحاجة للنظر إليها، ويتمحور عقلك حول تلك الألوان الثماني وما يمكن أن تفعله بها. ثم تكتشف يوما - إنت كنت محظوظا - علبة الألوان ذات ال٢٤ قلما، وذات الأطراف السميكة والرفيعة، فيكاد عقلك ألا يصدق نفسه، وتتحسر على كل ما كان يمكن أن تقوم بتلوينه منذ سنة أو أكثر بشكل أفضل وأكثر واقعية لو كنت تعلم أن هذه الألوان والأنواع من الأقلام موجودة. ثم تكتشف علبة ألوان بها أكثر من خمسين لونا، فيزداد عدم تصديقك لما بين يديك. وتقع في غرام كل الألوان تقريبا، حتى وإن كنت تفضل بعضها على البعض، فتجربها كلها ولو مرة واحدة على الأقل لتراها بعينيك، ثم تستخدمها كلها تقريبا بعد ذلك بحسب حاجتك دون رفض قاطع لبعضها. ثم تبدأ أنت في رسم الأشكال التي تريد تلوينها، دون التقيد بكتيبات التلوين الجاهزة، فتعرف أن الإحتمالات ربما تكون لانهائية لما يمكن أن تصنعه. ثم تكتشف ألوان الماء وألوان الزيت والرصاص والفلوماستر وغيرها، وتكتشف أن نفس درجة اللون يوجد منها أنواعا مختلفة ذات خصائص وإستخدامات متعددة. ثم تأتي تلك اللحظة عندما تكتشف - ربما بمحض الصدفة - أنه يمكنك أن تخلط الألوان لتصنع لونا جديدا ربما ليس عندك منه في تلك اللحظة، أو حتى لونا جديدا لم تتخيل وجوده، فتدرك أنك قد صرت أنت في هذه اللحظة شيئا لم تتخيله قط: صانعا للألوان، وليس مجرد مستهلك لها.
ستحتار كثيرا عند وصولك تلك المرحلة قبل أن تقرر ماذا سترسم اليوم، وعلى أي نوع من الورق، وبأي أداة للرسم، وكيف ستلون تلك الرسمة إن إخترت تلوينها، وبأي نوع من الألوان، إلخ. إلا أنها ستكون حيرة ممتعة، تأتي من معرفة أن الإحتمالات لا تنتهي.
***
ثم تمر السنوات وتكبر في العمر، وتعود إلى الوراء.
فتصير دائما مطالبا بأن تختار بين أبيض وأسود، وبين هذا أو ذلك، وفي كل الأمور، بدئا من رؤيتك للدنيا، من تحب ومن تكره، موقفك من أحداث تاريخية وأحداث حالية، أراءك الأيديولوجية وأراءك في الشعوب والفنون والكتب والشخصيات العامة والعادات والتقاليد والقوانين والسياسة والرياضة، وغيرها. وفي بعض الأمور، فهناك بجانب الأبيض والأسود بعض الألوان والأراء الصلبة المحدودة المعدة سلفا التي يمكن أن تختار منها، ولا تختار خارجها. فإن لم تستطع، فأنت إذا بالنسبة للبعض ضعيفا، غير حاسما، مراهقا فكريا، مضيعا لوقتك في نقاشات واضحة، تريد أن تختبئ بجبنك وترددك وضعفك وراء ستار من الحيادية أو الوسطية أو المغامرات الفكرية الكاذبة. وبالتأكيد، فالبعض لديه بعض المشاكل الحقيقية في إتخاذ القرارات والمواقف بالفعل.
ولكن البعض الأخر يختلف.
فمتى أصبح رفض الأبيض والأسود كلونان مجبوران علينا عيبا وضعفا وترددا؟
ولماذا ننسى كل الإحتمالات والألوان التي بينهما؟
وننسى الألوان التي بين الألوان؟
وننسى أنواع الألوان والأقلام؟
وننسى أنه يمكننا أن نصنع الألوان بأيدينا؟
أو أنه من حقنا كذلك أن نترك الورقة بيضاء إن أردنا، ولو لفترة!؟
***
(٢)
قيل لي عندما كنت صغيرا أنه “من قال لا أعلم فقد أفتى”. ومنذ ذلك اليوم، لم أسمع أحدا يُفتي بتلك الفتوى تحديدا!
***
لماذا صرنا رافضين أن نقبل أننا قد نحتاج إلى وقت طويل للتفكير في بعض الأمور، وأننا قد نكتشف أن ما لدينا من معلومات وقدرات تحليلية لا يسعفانا في الوقت الحالي؟ لماذا نرفض بأننا أحيانا فريسة لطُرُق التفكير والأدوات التحليلية والقوالب والأفكار المعبأة مسبقا، والتي يعاني عقلنا دون ذنب منه للخروج منها؟ لماذا نرفض أن بعض الأسئلة ربما لا يمكن الإجابة عليها مطلقا لصعوبتها أو لعدم إمكانية الحصول على المعلومات القاطعة للإجابة عليها؟ لماذا نرفض بشكل متزايد أن نقبل أنه في جدل ما قد نجد أن كل أو أغلب وجهات النظر بها قدر من الصحة، أو أنه قد لا توجد وجهة نظر واحدة منهم تبدو صحيحة كليا لنا، وأننا ربما نحتاج إلى فكرة جديدة تماما؟ لماذا لا نقبل أن الكثير من الأمور لا يمكن التأكد منها بأكثر من ٩٩.٩٪ على أفضل الأحوال؟ ولماذا لا نقبل بأننا كلنا منحازون بشكل مُضِر أثناء بحثنا عن الحقائق والإجوبة بسبب إنتماءاتنا السياسية والإجتماعية والمجتمعية والثقافية والعمرية وغيرها، وما تعودنا عليه وتم إجبارنا على التعود عليه حتى إعتقدنا أنه أمرا طبيعيا لا بديلا عنه، مما سيؤثر سلبا على موضوعيتنا بشكل لا مهرب سهل منه، وعلى ما نريد من الحقيقة أن تكون؟ لماذا نفترض كثيرا أن كل من هو غيرنا بالتأكيد مخطئ في خياراته أو قناعاته أو تفضيلاته أو أسلوب حياته؟ لماذا لا نقبل أن عدم التأكد من أمر ما، ولو مؤقتا، قد يكون الموقف السليم عقليا ونظريا بما لدينا من معلومات وبيانات وتحليل في تلك اللحظة؟ لماذا نرفض، مثلا، أن شخصا ما مثيرا للجدل (له من يقدسه ومن يكره يوم ميلاده) قد يكون به من العظمة ومن الحقارة في نفس الوقت، دون تناقض بالضرورة؟ لماذا نرفض أن بعض الصراعات قد لا تكون بالضرورة بين خير وشر مطلقين، ولكن بين خيرين أو أكثر، أو نوعين أو درجتين من الشرور أو أكثر؟ لماذا لا يرى البعض المفارقة بأن أغلب العلماء الحقيقيين يبدؤون كلماتهم ب "أنا أعتقد"؟ لماذا نرفض في عناد أن الكثير من الإجابات بطبيعتها معقدة ومتعددة المحاور، وأن تبسيطها المبالغ فيه ليس من النجاح أو الذكاء في شيء؟
***
الإقرار بعدم المعرفة أحينا وبعدم التأكد، بعدم التخوف من طلب المزيد من الوقت والمعلومات، برؤية قدر من الصحة في الكثير من وجهات النظر المتنافسة أحيانا هم من علامات الشخص المنفتح فكريا، الشخص الذي لا يشعر بالنقص أو الحاجة المستمرة في إثبات عدم جهله عن طريق إدعاء التأكد على ذاته قبل إدعاء التأكد أمام غيره، وهو كذلك الشخص الذي لا يخاف تشكيل حقائقه وإجاباته بذاته بعيدا عن الحقائق والإجابات المعدة مسبقا، والشخص الذي يعرف بأنه يوجد أكثر بكثير في طيف الأفكار والإحتمالات والإجابات من الأبيض والأسود، بل وحتى أكثر بكثير جدا من الألوان الصلبة والأساسية التي نجدها في علبة التلوين التي ذات ال٨ أقلام التي تربينا عليها كأطفال وحفظتها عقولنا، وتعودنا مع الوقت ألا نملئ الفراغات إلا بها، وأصبح من الجرم أحيانا أن تخرج عنها.
فلنمدح للحظة هؤلاء الذين يرون كل الألوان، والذين يصنعون الألوان الجديدة إن إحتاجوا لذلك، الذين يدمنون البحث النزيه عن الحقائق بدلا من إدمان إتخاذ المواقف في أسرع وقت ممكن ليحصلون على ثقة خاوية في أنفسهم، والذين يعرفون أن إجابات "لا أعلم، لست متأكدا، أنا أعتقد، دعني أفكر، ليس الأمر بهذه البساطة" هي إجابات عظيمة تحتاج البشرية أن تستخدمها أكثر بكثير مما تفعل الآن. ولنمدح للحظة من يحطمون القوالب ولا يخافون الخروج عنها. ولنمدح للحظة من يقرر كل فترة وفترة أن يعود عقله صفحة بيضاء، يقوم بإعادة رسمها وتلوينها دون خوف.
*(هذا مقال كتبته منذ فترة ونسيته تماما، ثم تذكرته فجأة وقررت نشره اليوم.)